فصل: المسألة الثالثة: (فيمَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

.المسألة الأولى: [في أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ]:

ثَبَتَ عَنْ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: مَا يَبْكِيك يَا أَبَتَاهُ؟ أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إنَّ أَفْضَلَ مَا بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَنِّي كُنْت عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدُّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ مِنِّي، وَلَا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْت مِنْهُ فَقَتَلْته، فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْت مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْت النَّبِيَّ فَقُلْت: اُبْسُطْ يَمِينَك لِأُبَايِعَك، فَبَسَطَ يَمِينَهُ.
قَالَ: فَقَبَضْت يَدِي.
قَالَ: مَا لَك يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْت: أَرَدْت أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ: تَشْتَرِطُ مَاذَا؟ قُلْت: أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَمَا كُنْت أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْت أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْت؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مِتُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَرَجَوْت أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وُلِّينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا؛ فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ؛ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا التَّفِل عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا، ثُمَّ أُقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.

.المسألة الثَّانِيَةُ: [في لطف الله بمغفرة ذنوب المشركين إن أنابوا وأسلموا]:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ لَطِيفَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلِيقَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِمَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَآثِمَ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ مُؤَاخَذَتَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً، وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ؛ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ، وَبَذَلَ الْمَغْفِرَةَ بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ، وَأَدْعَى إلَى قَبُولِهِمْ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَتَأْلِيفًا عَلَى الْمِلَّةِ، وَتَرْغِيبًا فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا أَنَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا.
فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، سَأَلَ: هَلْ لَهُ تَوْبَةٌ؟ فَجَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَك، فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً.
ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا آخَرَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: وَمَنْ يَسُدُّ عَلَيْك بَابَ التَّوْبَةِ؟ ائْتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
فَمَشَى إلَيْهَا، فَحَضَرَهُ الْأَجَلُ فِي الطَّرِيقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ أَنْ قِيسُوا إلَى أَيِّ الْأَرْضَيْنِ هُوَ أَقْرَبُ، أَرْضُهُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ؟ فَأَلْفَوْهُ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَاسَمُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ دَنَا بِصَدْرِهِ.
فَانْظُرُوا إلَى قَوْلِ الْعَالِمِ لَهُ: لَا تَوْبَةَ لَهُ.
فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَيْأَسَهُ قَتَلَهُ؟ فِعْلُ الْيَائِسِ مِنْ الرَّحْمَةِ؛ وَالتَّنْفِيرُ مَفْسَدَةٌ لِلْخَلِيقَةِ، وَالتَّيْسِيرُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ لَمْ يَقْتُلْ فَسَأَلَهُ: هَلْ لِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لَا تَوْبَةَ لَهُ؛ تَخْوِيفًا وَتَحْذِيرًا.
فَإِذَا جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ: هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ لَهُ: لَك تَوْبَةٌ؛ تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا.

.المسألة الثالثة: [فيمَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ]:

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاقَ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ.
فَأَمَّا مَنْ افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَةِ، وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ أَوْ اغْتَصَبَ مُسْلِمَةً ثُمَّ أَسْلَمَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: إنَّمَا يَعْنِي عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ شَيْءٍ.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: {إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، وَقَوْلِهِ: {الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ}.
وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ.

.المسألة الرابعة: إذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَأَصَابَ جِنَايَاتٍ وَأَتْلَفَ أَمْوَالًا:

فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: يَلْزَمُهُ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ وَلِلْآدَمِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا كَانَ لِلَّهِ يَسْقُطُ، وَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ يَلْزَمُهُ؛ وَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا.
وَدَلِيلُهُمْ عُمُومُ قَوْلِهِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».
وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاَللَّهِ كُلِّهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَلْزَمُ الْمُرْتَدَّ؛ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ حُقُوقُ اللَّهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَلَا حُقُوقِ اللَّهِ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَتَلْزَمُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَفِي ذَلِكَ تَمْهِيدٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني أبا سفيان وأصحابه ومن كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة: {إِن يَنتَهُواْ} عن الشرك وعن قتال محمد وعن المؤمنين، {يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}؛ يعني يتجاوز عنهم ما سلف من ذنوبهم وشركهم.
{وَإِن يَعُودُواْ} إلى قتال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين} بنصرة أوليائه وقهر أعدائه.
ويقال: يعني القتل يحذرهم بالعقوبة لكيلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم؛ وقال الكلبي: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين} أن ينصر الله أنبيائه ومن آمن معهم، كقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ في الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد} [غافر: 51]. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قُل لِلَّذِينَ كفروا} أبي سفيان وأصحابه {إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ} ان ينتهوا من الشرك وقال محمد: يغفر لهم: {مَّا قَدْ سَلَفَ} من عملهم قبل الإسلام {وَإِنْ يَعُودُواْ} لقتال محمد صلى الله عليه وسلم {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} في نصر الأنبياء والأولياء وهلاك الكفّار والأعداء مثل يوم بدر.
قال الأستاذ الإمام أبو إسحاق: سمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عليّ بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: إنّي لأرجو أنّ توحيدًا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي بذلك أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد الزيدي:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ** ثمّ انتهى عمّا أتاه واقترف

لقوله سبحانه في المعترف: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {قَل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يَغْفِرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}
يحتمل وجهين:
أحدهما: إن ينتهوا عن المحاربة إلى الموادعة يغفر لهم ما قد سلف من المؤاخذة والمعاقبة.
والثاني: إن ينتهوا عن الكفر بالإسلام يغفر لهم ما قد سلف من الآثام.
{وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأُوَّلِينَ} تأويله على احتمال الوجهين الأولين:
فعلى الوجه الأول: تأويله: وإن يعودواْ إلى المحاربة فقد مضت سنة الأولين فيمن قتل يوم بدر وأسر، قاله الحسن ومجاهد والسدي.
وعلى الوجه الثاني: فقد مضت سنة الأولين من الأمم السالفة فيما أخذهم الله به في الدنيا من عذاب الاستئصال.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل مكة بعد أن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقال لهم: «ما ظَنُّكُم بِي وَمَا الَّذِي تَرَونَ أَنِّي صَانِعُ بِكُم؟» قالوا: ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك وإن تنتقم فقد أسأنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لإخْوَتِهِ: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}» [يوسف: 92] فأنزل الله تعالى هذه الآية. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {قل للذين كفروا} الآية، أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى الذي تضمنه ألفاظ قوله: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وسواء قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبارة أو غيرها، ولو كان الكلام كما ذكر الكسائي أنه في مصحف ابن مسعود {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لكم} لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها، هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ، وقوله: {إن ينتهوا} يريد به عن الكفر ولابد، والحامل على ذلك جواب الشرط ب {يغفر بهم ما قد سلف}، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنتهٍ عن الكفر، وقوله: {إن يعودوا} يريد به إلى القتال لأن لفظة عاد يعود إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان الإنسان عليها ثم تنقَّل عنها.
ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال، ولا يصح أن يتأول {وإن يعودوا} إلى الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه وإنما قلنا في عاد إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر بمنزلة صار، وذلك كما تقول عاد زيد ملكًا تريد صار، ومنه قول أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ** شبيبا بماء فعادا بعد أبوالا

وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل، لكنها مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونه، فحكمها حكم صار، وقوله: {فقد مضت سنة الأولين} عبارة بجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله حين صد في وجه نبيه وبمن هلك في يوم بدر بسيف الإسلام والشرع، والمعنى قد رأيتم وسمعتم عن الأمم ما حل.
قال القاضي أبو محمد: والتخويف عليهم بقصة بدر أشد إذ هي القريبة منهم والمعاينة عندهم وعليها نص ابن إسحاق والسدي. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}
قوله تعالى: {قل للذين كفروا} نزلت في أبي سفيان وأصحابه، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وفي معنى الآية قولان:
أحدهما: إن ينتهوا عن المحاربة، يُغْفَرْ لهم ما قد سلف من حربهم، فلا يُؤاخَذون به، وإن يعودوا إلى المحاربة، فقد مضت سنة الأولين في نصر الله أولياءه، وقيل: في قتل من قُتِل يوم بدر وأُسر.
والثاني: إن ينتهوا عن الكفر، يُغْفَر لهم ما قد سلف من الإثم؛ وإن يعودوا إليه، فقد مضت سُنَّةُ الأولين من الأمم السالفة حين أُخذوا بالعذاب المستأصِل.
قال يحيى بن معاذ.
في هذه الآية: إنَّ توحيدًا لم يعجِزْ عن هدم ما قبله من كفر، لا يعجِزُ عن هدم ما بعده من ذنب. اهـ.